في الذكرى 54 للامتداد التاريخي والحربي العسكري لجيش الجنوب

كتب /يحيى أحمد

 

القوات المسلحة الجنوبية تمثل الامتداد التاريخي والحربي للجيش الوطني وتقاليده وأمجاده المشهودة في مختلف مراحل التاريخ الحضاري والعسكري للجنوب، وهي أيضًا الامتداد العضوي لجيش جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ذائع الشهرة والصيت، الذي تخلق و سقلته مواهبه في أتون حرب التحرير الشعبية قبل أن يحمل على عاتقه أحد أعظم وأخطر المهام والواجبات الوطنية في تأمين مسيرة الثورة والدفاع الناجز عن حرية الوطن وسيادته ووحدته الجغرافية، وتوفير البيئة الوطنية الأمنية والعسكرية المستقرة لتشد فروع الدولة الجنوبية و تقدم المجتمع وازدهاره.

لا غرابة أن يصبح الجيش الوطني الجنوبي بعد الوحدة هدفًا رئيسيًا للمؤامرات والحروب الناعمة والاستهداف المباشر من قبل العديد من الأطراف الداخلية والخارجية التي أدركت مبكرًا أن تمرير مشروعها في ابتلاع وهضم الجنوب يبدأ بمهمة تفكيك وتدمير أهم مصادر مناعة وقوة وحصانة ووحدة ونفوذ الوطن الجنوبي والمتمثلة تاريخيًا في جيشه وأمنه. مؤامرات استهداف الجيش والوطن الجنوبي سبقت إعلان الوحدة وتجلت بوضوح في الاتفاقيات السياسية الخاصة بإعادة انتشار وتموضع التشكيلات العسكرية الجنوبية داخل الأراضي الشمالية، لتستمر بعدها المهمة التآمرية من خلال الاستنزاف الكبير لمجمل عناصر قوته المادية والبشرية والثقافية وعقيدته وأخلاقياته الوطنية، وتمزيق نسيجه الداخلي لتأتي الحرب بعد أربع سنوات من التدمير المتواصل، ومثلت ذروة الفعل التأمري والاجهاز التسلسلي على تشكيلاته العسكرية المنتشرة في المحافظات الشمالية واحدة تلو الأخرى والاستحواذ على كل معداته وأسلحته التي تم حشدها وتجييشها لغزو واحتلال الأرض الجنوبية بجحافل عسكرية لم يسبق لها مثيل، شاركت فيها الجماعات القاعدية الإرهابية الدولية والقوات الشمالية باطيافها العسكرية والأمنية والقبلية وأحزابها السياسية.

ولم تتوقف عملية استهداف الجيش الجنوبي عند هذه المرحلة، بل استمرت بعد احتلال الجنوب في طرد كل من تبقى من قيادات وأفراد هذا الجيش وإحالتهم إلى التقاعد القسري، أعقبتها حملة من عمليات الاغتيالات لأبرز قياداته وأكثر عناصره كفاءة ومهارة في مختلف المجالات ومن كل صنوف القوات المسلحة، لتليها بعد ذلك مهمة إفقارهم الممنهج بأبشع الوسائل والممارسات التي لم يشهد لها مثيل في التاريخ، وأغلقت أمام مختلف فئات وشرائح الشعب الجنوبي كل بوابات الالتحاق والعمل في المؤسسة العسكرية والأمنية، وكذلك الكليات والمعاهد والأكاديميات في الداخل والخارج، مع بعض الاستثناءات للعناصر المنتقاة التي لا تتعدى أصابع اليد في كل عام.

بنجاحه في تدمير الجيش الجنوبي وهزيمته عسكريًا وتشريد ما تبقى من منتسبيه، ظن المستعمر الجديد أنه قد حقق أحلامه القديمة المتجددة في بلع وهضم الجنوب وتحويل جغرافيته وثرواته إلى قطاعية خاصة به، وقتل إرادة الشعب وتدجينه وصولًا إلى استعباده وضمان "عودة الفرع إلى الأصل أو عودة الابن الهارب إلى حضن أمه الحنون". حينها اعتقد النظام وهو في قمة فرحته ونشوته بتملك الشمال للجنوب لقرون مديدة.

إلا أن نشوة الفرح والانتصار والزهو التي عاشها نظام الاحتلال بعد حرب 1994م لم تدم طويلاً، فجيش الجنوب الذي اعتقد هذا النظام أنه قضى عليه بشكل نهائي ودفنه إلى الأبد، يتفاجأ به يبعث مجددًا كالعنقاء من تحت رماد وانقاض الهزيمة. هذا الجيش الذي دُمرت معداته وأسلحته وكل هياكل بنيانه وفقد الكثير من قادته وضباطه وأفراده، لم يمت ولم ينتهِ كانتماء وطني جنوبي، ولم ينتهِ كفكر وثقافة ووعي وتقاليد وقيم عسكرية جنوبية أصيلة، وعاود ظهوره العلني إلى الوجود من خلال جمعية المتقاعدين العسكريين التي أوقدت وبشكل مبكر شعلة الثورة الجنوبية الجديدة، وأصبحت حاضنة وفقاسًا تربويًا للقيم ومبادئ الثورة وإعادة غرسها في ضمير ووجدان الشعب الجنوبي باختلاف شرائحه وأعمارهم، وظهرت إلى الوجود أشكال وأساليب مختلفة وحديثة من النضال الثوري التحرري التي تطورت و تجذرت في الوعي والثقافة وسلوك الوطني للشعب الجنوبي إلى حراك ثوري سلمي، وصلت أصداؤه إلى كل أرجاء المعمورة كأول ثورة وطنية سلمية منظمة واضحة مساراتها وأهدافها القريبة والبعيدة على مستوى المنطقة والعالم العربي.

القوات المسلحة الجنوبية المعاصرة هي الأخرى تخلقت وتشكلت وترعرعت وصقلت شبابها ومكونها الفكري والقيمي والمعنوي في أتون هذه الثورة، لتسجل بذلك إعادة استنساخ وتجديد وإحياء متواصل لتجربة الأجداد والآباء للثورة الجنوبية الأولى.

ومع التماثل بين تجربة الثورتين ومع التواصل الوراثي والجيلي للعناصر والقوى المحركة لهاتين الثورتين، إلا أن تجربة القوات المسلحة الجنوبية المعاصرة أكثر ثراءً وتنوعًا في أدواتها وتجاربها وأساليبها وخبراتها النضالية والقتالية، وفي معاركها وحروبها التحررية التي استخلصت من هذا الشعب، ولا زالت تدفع ثمنًا باهظًا وتضحيات جسيمة. معاركنا اليوم من أجل التحرير واستعادة الدولة أشد باسًا وضرواة وأكثر تعددًا واتساعًا في نطاق جبهات المواجهة مع أعداء كثر، البعض منهم معروف وواضح معالمه وملامحه وخطوط المواجهة والتماس معه، والبعض الآخر يرتدي عباءة الأخ أو الصديق أو الحليف، يعيش معنا بين الشقوق والتصدعات الاجتماعية وفي المناطق الرمادية شعاراته معنا وأفعاله ضدنا، والبعض الآخر مختفي وغير واضح بقدر ما تظهر أفعاله وجرائمه، وهناك أعداء لم تظهر ملامحهم على شاشات ورادارات الثورة الجنوبية. مجمل هذه العوامل والأوضاع تجعل من معركتنا المعاصرة أكثر صعوبة وأشد بأسًا وأعلى ثمنًا وأطول زمنًا.

الانتصارات التي صنعتها قوى الثورة الجنوبية وقواتها المسلحة تلهمنا على المزيد من البذل والعطاء والتضحية، وتوطننا على الصبر الطويل وقوة التحمل والثبات لمواجهة المخاطر والتحديات، والأهم من ذلك أنها تعزز من ثقتنا بحتمية الانتصار وقهر الأعداء وإن تكالبوا علينا. وهذه الثقة التي نستلهمها من إرادة شعبنا هي في الحقيقة منطوق التاريخ الجنوبي بمختلف المراحل.